أتصور أن قرار المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين عدم الترشح لولاية ثانية، لحظة تاريخية هامة وخطيرة في تاريخ أم الجماعات الإسلامية في العصر الحديث وأكثرها معرفة بفن السياسة، وفي تصوري أنها اقتربت بذلك كثيرا جدا من الواقعية السياسية. قال مهدي عاكف لوكالة فرانس برس يوم الخميس الماضي إنه سيترك منصبه في مطلع يناير القادم، نهاية ولايته التي بدأت في عام 2004 لبلوغه الواحد والثمانين عاما، وأن مجلس شورى الجماعة سينتخب مرشدا جديدا.
الأهم أنه نصح من تجاوز الخمسة وستين عاما بعدم الترشح لهذا المنصب، وهنا بيت القصيد الذي لابد أن ننظر له بعمق وتفكير جديين.نحن إذاً على أعتاب قيادة الإصلاحيين المعتدلين من أمثال الدكتور عصام العريان والدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح، ونتجه نحو مرحلة يتوارى فيها الحرس القديم المعروف بمواقفه المتشددة، والتي قد يكون مهدي عاكف آخرهم كحاكم للإخوان.في عهد عاكف حققت الجماعة أنجح ضرباتها الانتخابية بالحصول على 20% في الانتخابات التشريعية عام 2005، ولولا الحصار الحكومي واللجوء للتزوير لحققت أكثر من تلك النسبة بكثير، فهي القوة المعارضة الرئيسية والأكثر تنظيما وتفاعلا من كل القوى السياسية المعارضة الأخرى.لديها برنامج واضح، وأجيال متجددة وحيوية. أكثرهم تأثيرا ذلك الجيل الذي ينتمي إليه العريان وأبو الفتوح وحبيب، وكنا نسميهم قبل أكثر من عشر سنوات، الحرس الجديد أو الشباب، وقد أصبحوا الآن في مرحلة الشيخوخة التي تبدأ من الستين، وسيصيرون حرسا قديما بعد يناير القادم، بذهاب عاكف وتحقيق نصيحته بتولي من هو أقل من الخمسة والستين منصب المرشد.الواقعية السياسية التي تقترب منها الجماعة، هي تلك التي ينادي بها المدونون من شباب الإخوان. فمن حق هذه الجماعة القوية أن تحلم بالحكم وأن تجدد نفسها وفق الظروف الدولية الراهنة. ما المانع أن تقدم نسخة مصرية من رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية ذي الجذور الإسلامية، الذي يحكم تركيا حاليا وينتقل بها إلى وضعها العثماني أيام دولة الخلافة، صيت وهيبة وقوة إقليمية يحسب لها ألف حساب، لكن بصيغة أخرى عصرية مقبولة في الغرب والشرق.إعلان مرشد الإخوان بعدم التجديد تزامن مع ما قيل إن جمال مبارك سمعه أثناء زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، فلم تعد تخيفهم الفزاعة التقليدية التي ظل النظام المصري يقاوم بها الديمقراطية طوال عهد الرئيس السابق جورج دبليو بوش.جمال مبارك.. أو الرئيس المحتمل لمصر كما وصفته محطة سي ان ان أثناء الحوار الذي أجراه معه الإعلامي فريد زكريا في الشهر الماضي، اندهش بشدة عندما سمع من الأمريكيين أهمية إشراك الإخوان في العملية السياسية كقوة تتمتع بشعبية عريضة في الشارع المصري.النظام في مصر ترهل بشدة بسبب طول البقاء في الحكم، لكنه دائما يتحجج بغياب البديل، خصوصا أن الأحزاب المعارضة الشرعية لا تصلح لشيء سوى أخذ معونة من الدولة لإصدار صحيفة!كلها كذلك من حزب الوفد العريق والأكثر تجزرا في الحياة السياسية المصرية، إلى حزب الغد الذي لا يستطيع أحد القول إن له شعبية تؤهله للمنافسة، رغم تعاطف كثيرين مع زعيمه الدكتور أيمن نور.من هنا تتصاعد نغمة التوريث بشدة، ويطل دائما الحديث في المنابر المختلفة عن جمال مبارك خليفة لوالده، فلا يوجد أحد غيره على السطح.جماعة الإخوان وحدها، تملك مفاتيح البديل. تستطيع إنقاذ النظام السياسي من الترهل وتجديد دماء مصر، وها هي تبدأ بنفسها بإعلان مرشدها بأن للسن أحكاما، فلا توجد قوة على الأرض تتحدى عوامل الزمن ولا يمكن للخريف إقصاء بقية الفصول.لقد بدأت بعلاج الترهل فيها، وإعطاء جيل جديد فرصته نحو التغيير والتواؤم مع الظروف الدولية. ولا يجب هنا التهوين بأهمية هذا التحول وتأثيره، ليس على الإخوان فقط، بل على الشعب المصري وحراكه السياسي الذي يوشك أن يخرج قريبا من المدونات وعالم الـ"الفيس بوك" إلى الواقع.تقول مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية: ليس معروفا ما إذا كان خليفة عاكف، سيكون من الإصلاحيين المعتدلين، أم المحافظين المتشددين، لكن اختيار زعيم إصلاحي معتدل مثل العريان أو أبو الفتوح سيكون إشارة قوية على التزام الجماعة باللعبة الديمقراطية والاتجاه المعتدل.التغيير الأمريكي المذهل الذي أتى بأول رئيس أسود للولايات المتحدة التي كانت يوما من أسوأ الأمم عنصرية وتمييزا ضد السود، وهو تغيير لم يتصوره أحد تاريخيا، قد يحدث في مصر أيضا ويأتي بأول رئيس من جماعة الإخوان المسلمين التي قاتلها النظام بعنف ونصب المشانق لقادتها وأغلق السجون على الآلاف منها منذ حظرها عام 1954.ما المانع أن تصل ثورة التغيير إلى مصر من أمريكا نفسها التي قيل إنها نصحت مؤخرا جمال مبارك بقبول الإخوان كجماعة سياسية منافسة.من حق الإخوان أن يتغيروا ويحلموا بالاستيقاظ يوما على عصام العريان – مثلا – رئيسا لمصر بالانتخاب الحر المباشر!* خاص بـ"العربية نت"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق